الجزء الثالث
المفهوم المادي للتاريخ
ادرك ماركس خلو المادية القديمة من المنطق و عدم اكتمالها و طابعها الوحيد الجانب. فاقتنع بانه يجب "جعل علم المجتمع منسجما مع الاساس المادي و اعادة بنائه استنادا الى هذا الاساس".25 واذا كانت المادية بوجه عام تفسر الوعي بالكائن و ليس بالعكس فهي تتطلب عند تطبيقها على الحياة الاجتماعية للانسانية تفسير الوعي الاجتماعي بالكائن الاجتماعي. يقول ماركس: "ان التكنولوجيا تبرز اسلوب عمل الانسان تجاه الطبيعة اي العملية المباشرة لانتاج حياته و بالتالي الظروف الاجتماعية لحياته و الافكار او المفاهيم الفكرية التي تنجم عن هذه الظروف" ("راس المال" المجلد الاول).26 وقد اعطى ماركس صيغة كاملة عن الموضوعات الاساسية للمادية في تطبيقها على المجتمع البشري و على تاريخه و ذلك في مقدمة كتابه: "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" قال:
"ان الناس اثناء الانتاج الاجتماعي لحياتهم يقيمون فيما بينهم علاقات معينة ضرورية مستقلة عن ارادتهم. و تطابق علاقات الانتاج هذه درجة معينة من تطور قواهم المنتجة المادية.
و مجموع علاقات الانتاج هذه يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع اي الاساس الواقعي الذي يقوم عليه بناء فوقي حقوقي و سياسي و تطابقه اشكال معينة من الوعي الاجتماعي. ان اسلوب انتاج الحياة المادية يشترط تفاعل الحياة الاجتماعي و السياسي و الفكري بصورة عامة. فليس ادراك الناس هو الذي يحدد معيشتهم بل على العكس من ذلك معيشتهم الاجتماعية هي التي تحدد ادراكهم. و عندما تبلغ قوى المجتمع المنتجة المادية درجة معينة من تطورها تدخل في تناقض مع علاقات الانتاج الموجودة او مع علاقات الملكية – و ليست هذه سوى التعبير الحقيق لتلك – التي كانت الى ذلك الحين تتطور ضمنها. فبعد ما كانت هذه العلاقات اشكالا لتطور القوى المنتجة تصبح قيودا لهذه القوى. و عندئذ ينفتح عهد الثورة الاجتماعية. و مع تغير الاساس الاقتصادي يحدث انقلاب في كل البناء الفوقي الهائل بهذا الحد او ذاك من السرعة. وعند دراسة هذه الانقلابات ينبغي دائما التمييز بين الانقلاب المادي لشروط الانتاج الاقتصادية – هذا الانقلاب الذي يحدد بدقة العلوم الطبيعية – وبين الاشكال الحقوقية و السياسية و الدينية و الفنية و الفلسفية او بكلمة مختصرة الاشكال الفكرية التي يتصور فيها الناس هذا النزاع ويكافحونه.
فكما انه لا يمكن الحكم على فرد وفقا للفكرة التي لديه عن نفسه كذلك لا يمكن الحكم على عهد انقلاب كهذا وفقا لوعيه. فينبغي تفسير هذا الوعي بتناقضات الحياة المادية و بالنزاع القائم بين قوى المجتمع المنتجة و علاقات الانتاج"..." ان اساليب الانتاج الاسلوب الاسيوي و القديم و الاقطاعي و البرجوازي الحديث مرسومة بخطوطها الكبرى يمكن اعتبارها بمثابة عهود متصاعدة من التكون الاجتماعي الاقتصادي".27(" راجع الصيغة الموجزة التي يعطيها ماركس في رسالته الى انجلس بتاريخ 7 تموز/جويلية 1866: "نظريتنا حول تحديد تنظيم العمل بواسطة وسائل الانتاج").
ان اكتشاف المفهوم المادي عن التاريخ او بتعبير ادق تطبيق و توسيع المادية بداب و انسجام الى النهاية حتى تشمل ميدان الظاهرات الاجتماعية قد قضى على عيبين رئيسيين في النظريات التاريخية السابقة: اولا: لم تكن هذه النظريات تاخذ بعين الاعتبار, في احسن الحالات, غير الدوافع, دون ان تدرك القوانين الموضوعية التي تسير تطور نظام العلاقات الاجتماعية, دون ان ترى جذور هذه العلاقات في درجة تطور الانتاج المادي. ثانيا: كانت النظريات السابقة تهمل على وجه الضبط عمل جماهير السكان بينما مكنت المادية التاريخية لاول مرة من دراسة الظروف الاجتماعية لحياة الجماهير و من دراسة تغيرات هذه الظروف بدقة العلوم الطبيعية. لقد كان "علم الاجتماع" و علم التاريخ قبل ماركس يكدسان في احسن الحالات وقائع خام مجموعة كيفما اتفق و يعرضان بعض الجوانب من حركة تطور التاريخ. لقد شقت الماركسية الطريق امام دراسة واسعة شاملة لعملية نشوء تشكيلات المجتمع الاقتصادية و تطورها و انهيارها و ذلك بتحليلها مجموعة الميول المتناقضة و ردها الى ظروف المعيشة و الانتاج الواضحة المعالم لمختلف طبقات المجتمع و بابعادها اختيار الافكار "القائدة" او تاويلها على نحو ذاتي و اعتباطي و يكشفها عن جذور جميع الافكار و جميع الميول المتباينة في اوضاع القوى المنتجة المادية دون استثناء. ان الناس هم صانعوا تاريخهم و لكن ما الذي يحدد دوافعهم و خصوصا دوافع الجماهير البشرية؟ و ما هو سبب نزاعات الافكار و المطامح المتضادة؟ وماذا يمثل مجموع هذه النزاعات في مجمل المجتمعات البشرية و ما هي الشروط الموضوعية لانتاج الحياة المادية التي يقوم عليها اساس كل نشاط الناس التاريخي؟ و ماهو قانون تطور هذه الشروط؟ ان ماركس قد اعار انتباهه لهذه المسائل و رسم الطريق لدراسة علمية للتاريخ بوصفه حركة تطور واحدة تسير وفق قوانين معينة رغم تنوعها العجيب و رغم جميع تناقضاتها.
الصراع الطبقي
من المعلوم انه في كل مجتمع تتصادم مطامح البعض مع مطامح البعض الاخر و ان الحياة الاجتماعية مليئة بالتناقضات, و ان التاريخ يكشف لنا عن الصراع الذي بين الشعوب و المجتمعات, كما يقوم داخل الشعوب و المجتمعات نفسها, و انه يبين لنا ايضا مراحل متعاقبة من الثورة و الرجعية, من السلم و الحروب, من الركود و التقدم السريع او الانحطاط. ان الماركسية قد رسمت النهج الموجه الذي يتيح اكتشاف وجود القوانين في هذا التعقيد و التشوش الظاهر و نعني بهذا نظرية الصراع الطبقي. فقط دراسة مجمل المطامح لدى جميع اعضاء مجتمع ما او عدد من المجتمعات تسمح بتحديد نتيجة هذه المطامح تحديدا علميا. هذا مع العلم ان المطامح المتناقضة يولدها تباين الاوضاع و شروط الحياة لدى الطبقات التي ينقسم اليها كل مجتمع. يقول ماركس في "البيان الشيوعي": "ان تاريخ كل مجتمع الى يومنا هذا (ثم يضيف انجلس فيما بعد: ما عدى المشاعية البدائية) لم يكن سوى تاريخ صراع بين الطبقات. فالحر و العبد, و النبيل و العامي, و السيد الاقطاعي و القن, و المعلم و الصانع, اي باختصار, المضطهدون و المضطهدين, كانوا في تعارض دائم و كانت بينهم حرب مستمرة, تارة ظاهرة, و تارة مستترة, حرب كانت تنتهي دائما اما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع باسره و اما بانهيار الطبقتين معا...اما المجتمع البرجوازي الحديث الذي خرج من احشاء المجتمع الاقطاعي الهالك فانه لم يقض على التناقضات بين الطبقات بل اقام طبقات جديدة محل القديمة و اوجد ظروفا جديدة للاضطهاد واشكالا جديدة للنضال بدلا من القديمة. الا ان ما يميز عصرنا الحاضر, عصر البرجوازية, هو انه جعل التناحر الطبقي اكثر بساطة. فان المجتمع اخذ بالانقسام, اكثر فاكثر, الى معسكرين فسيحين متعارضين, الى طبقتين كبيرتين العداء بينهما مباشر: هما البرجوازية و البروليتاريا". ومنذ الثورة الفرنسية الكبرى كشف تاريخ اوروبا في عدد من البلدان على نحو بديهي خاص عن السبب الحقيقي للاحداث وهو صراع الطبقات. فمنذ عهد عودة الملكية28 ظهر في فرنسا عدد من المؤرخين (تييري و غيزو و مينيه و تيير) الذين كانوا مجبرين عند تلخيصهم لما كان يحدث ان يعترفوا بان الصراع الطبقي موجود وانه المفتاح الذي يتيح فهم كل تاريخ فرنسا. ولكن المرحلة الحديثة الاخيرة, مرحلة انتصار البرجوازية التام, و المؤسسات التمثيلية و الاقتراع الموسع (ان لم يكن العام), مرحلة الصحافة اليومية الزهيدة الثمن, التي تتغلغل بين الجماهير الخ. هذه المرحلة قد اثبتت بمزيد من الجلاء ايضا (ولو احيانا على نحو وحيد الجانب و "سلمي" و "دستوري") ان الصراع الطبقي هو محرك الاحداث. ان المقتطف التالي من "البيان الشيوعي" يبين لنا ما طلبه ماركس من علم الاجتماع من وجهة نظر التحليل الموضوعي لاوضاع كل طبقة من طبقات المجتمع الحديث بالارتباط مع تحليل تطور هذه الطبقة: "وليس بين جميع الطبقات التي تقف الان امام البرجوازية وجها لوجه الا طبقة واحدة ثورية حقا هي البروليتاريا. ان جميع الطبقات الاخرى تنحط و تنقرض في النهاية مع نمو الصناعة الكبرى اما البروليتاريا فهي – خلافا لذلك – اخص واساس منتجات هذه الصناعة. ان الشريحة السفلى من الطبقة المتوسطة و صغار الصناعيين و الباعة و الحرفيين و الفلاحين تحارب البرجوازية من اجل الحفاظ على وجودها بوصفها فئات متوسطة. فيه ليست اذن ثورية بل محافظة و اكثر من محافظة ايضا انها رجعية. اذ انها تريد ان تدور عجلة التاريخ الى الوراء. وان حدث و ان كانت ثورية فذلك لانها في حالة انتقال الى صفوف البروليتاريا و بذلك لا تدافع عن مصالحها الانية بل عن مصالحها المستقبلية وهي تتخلى عن وجهة نظرها الخاصة لتتخذ لنفسها و جهة نظر البروليتاريا". و في جملة من المؤلفات التاريخية اعطى ماركس امثلة ساطعة و عميقة عن علم التاريخ المادي و عن تحليل ظروف كل طبقة بذاتها و احيانا ظروف مختلف الجماعات و الفئات في الطبقة الواحدة و بين على نحو ساطع لماذا و كيف "ان كل نضال طبقي هو نضال سياسي".29 ان المقطع الذي استشهدنا به انفا يبين بوضوح كم هي معقدة شبكة العلاقات الاجتماعية و الدرجات الانتقالية بين طبقة و اخرى و بين الماضي و المستقبل التي يحللها ماركس ليظهر حاصل كل التطور التاريخي.
ان نظرية ماركس تجد تاكيدها و تطبيقها الاكثر عمقا و شمولا و تفصيلا في مذهبه الاقتصادي.
مذهب ماركس الاقتصادي
يقول ماركس في مقدمة كتابه "راس المال": " ان الهدف النهائي لهذا الكتاب هو ان يكشف عن القانوا الاقتصادي لحركة المجتمع الحديث" اي المجتمع الراسمالي البرجوازي. فدراسة علاقات الانتاج في هذا المجتمع المحدد تاريخيا من حيث ولادة هذه العلاقات و تطورها و زوالها ذلك هو مضمون مذهب ماركس الاقتصادي. ان الشيء السائد في المجتمع الراسمالي هو انتاج البضائع. و لهذا يبدا تحليل ماركس بتحليل البضاعة.
القيمة
البضاعة هي بالدرجة الاولى شيء يسد حاجة من حاجات الانسان. و هي بالدرحة الثانية شيء يمكن مبادلته بشيء اخر. ان منفعة شيء ما تعطيه قيمة استعمالية. اما القيمة التبادلية- او القيمة باختصار- فهي, اولا, العلاقة, النسبة, في مبادلة عدد من القيم الاستعمالية من نوع ما بعدد من القيم الاستعمالية من نوع اخر. ان التجربة اليومية تبين لنا ان الملايين و المليارات من مثل هذه المبادلات تقيم دون انقطاع علاقات من التعادل بين القيم الاستعمالية الاكثر تنوعا و الاكثر تباينا. فما هو العنصر المشترك بين هذه الاشياء المختلفة التي يعادل بعضها ببعض باستمرار في نظام من العلاقات الاجتماعية؟ ان العنصر المشترك بينها هو كونها نتاجات عمل. فعندما يتبادل الناس منتجاتهم يعادلون بين انواع العمل الاكثر تباينا. ان انتاج البضائع هو نظام من العلاقات الاجتماعية يخلق فيه شتى المنتجين منتجات متنوعة (التقسيم الاجتماعي للعمل) ويعادلون بينها عند التبادل. و بالتالي ان العنصر المشترك بين جميع البضائع ليس هو العمل في فرع معين من الانتاج و ليس هو عملا من نوع خاص, بل هو العمل الانساني المجرد, العمل الانساني بوجه عام. ففي مجتمع معين تؤلف كل قوة العمل الممثلة في مجموع قيم كل البضائع قوة عمل انساني واحدة موحدة. و الدليل على ذلك المليارات من امثلة التبادل. وهكذا فكل بضاعة ماخوذة بمفردها لا تمثل سوى جزء ما من وقت العمل الضروري اجتماعيا. ان كمية القيمة تحدد بقيمة العمل الضروري اجتماعيا او بوقت العمل الضروري اجتماعيا لانتاج بضاعة معينة. اي قيمة استعمالية معينة. "ان المنتجين حين يعتبرون منتجاتهم المختلفة متساوية عند تبادلها يقرون بذلك ان ان اعمالهم المختلفة متساوية و هم لا يدركون لا يدركون ذلك و لكنهم يفعلونه". لقد قال اقتصادي قديم: ان القيمة هي العلاقة بين شخصين. وكان عليه ان يضيف بكل بساطة الى قوله هذا: علاقة مغلفة بغلاف مادي. ذلك انه لا يمكن فهم القيمة الا بالاستناد الى مجمل علاقات الانتاج الاجتماعية لتشكيلة تاريخية معينة اي العلاقات التي تظهر عند التبادل هذه الظاهرة الجماهيرية التي تتكرر مليارات المرات. "ان البضائع بوصفها قيما ليست الا كميات محدودة من وقت العمل المتجمد" ("مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"). و بعد تحليل مفصل للصفة المزدوجة للعمل المجسد في البضائع ينتقل ماركس الى تحليل اشكال القيمة و العملة (النقد). و المهمة الرئيسية التي يضعها نصب عينيه اذ ذاك هي ان يبحث عن منشا الشكل النقدي للقيمة و ان يدرس التفاعل التاريخي لتطور التبادل ابتداء من اعمال التبادل الفردية و العرضية ("شكل بسيط منفرد و طارئ للقيمة": كمية معينة من بضاعة ما تبادل مقابل كمية معينة من بضاعة اخرى) حتى الشكل العام للقيمة عندما يبادل عدد من البضائع المختلفة ببضاعة واحدة معينة, حتى الشكل النقدي للقيمة حيث يصبح الذهب بمثابة تلك البضاعة المعينة, بمثابة المعادل العام. ان النقد بوصفه النتاج الاعلى لتطور التبادل و انتاج البضائع يطمس, يخفي, الصفة الاجتماعية للعمل الفردي اي العلاقة الاجتماعية بين المنتجين المنفردين الذين يرتبطون ببعضهم البعض بواسطة السوق. ويخضع ماركس لتحليل مفصل الى اقصى حد شتى وظائف النقد. و من المهم الملاحظة هنا ايضا (كما في جميع الفصول الاولى من كتاب "راس المال") ان الشكل المجرد للعرض الذي يبدو احيانا استدلاليا فقط يعرض في الواقع مصادر وافرة الغنى حول تاريخ تطور التبادل و انتاج البضائع. "ان النقد يفترض مستوى معينا من التبادل البضاعي. ان شتى اشكال النقد, بوصفه معادلا بسيطا, ووسيلة للتداول, ووسيلة للدفع, و كنزا مخزونا, و نقدا عالميا – تدل بالمقارنة بين تفوق وظيفة على اخرى على مراحل مختلفة جدا من الانتاج الاجتماعي" ("راس المال", المجلد الاول).
القيمة الزائدة
في درجة ما من تطور انتاج البضائع يتحول النقد الى راس مال. لقد كانت صيغة تداول البضائع: ب (بضاعة) - ن (نقد) – ب (بضاعة), اي بيع بضاعة في سبيل شراء غيرها. اما صيغة راس المال العامة فهي بالعكس: ن – ب – ن - اي شراء في سبيل بيع (مع ربح). ان هذه الزيادة في القيمة الاولى للنقد الذي وضع قيد التداول هي ما يسميه ماركس "القيمة الزائدة". و "زيادة" المال هذه في التداول الراسمالي واقع معروف لدى الجميع. ان هذه "الزيادة" بعينها هي التي تحول المال الى راسمال بوصفه علاقة انتاج اجتماعية خاصة محددة تاريخيا. و لا يمكن للقيمة الزائدة ان تنجم عن تداول البضائع لان هذا التداول لا يعرف سوى تبادل اشياء متعادلة, و لا يمكن لها ايضا ان تنجم عن ارتفاع الاسعار لان الخسائر و الارباح لدى كل من الشارين و البائعين تتوازن, و الحال ان الامر يتعلق بظاهرة اجتماعية وسطية و معممة لا بظاهرة افرادية. فمن الاجل الحصول على القيمة الزائدة "يجب ان يتمكن صاحب المال من اكتشاف بضاعة في السوق, لها قيمة استعمالية, تتمتع بميزة خاصة هي ان تكون مصدرا للقيمة", اي بضاعة تكون عملية استهلاكها في الوقت نفسه عملية تخلق قيمة. وبالفعل هذه البضاعة موجودة: انها قوة العمل الانساني. ان استهلاكها هو العمل و العمل يخلق القيمة. ان صاحب المال يشتري قوة العمل بقيمتها التي يحددها, كما يحدد قيمة كل بضاعة اخرى, وقت العمل الضروري اجتماعيا لانتاج البضاعة (اي نفقات اعالة العامل و عائلته). و حين يشتري صاحب المال قوة العمل يصبح من حقه ان يستهلكها اي ان يجعلها تعمل طوال النهار ولنقل 12 ساعة. و لكن العامل حين يشتغل 6 ساعات (اي وقت العمل "الضروري") يعطي انتاجا يغطي نفقات اعالته و في الساعات الست الاخرى (اي وقت العمل "الزائد") يعطي انتاجا "زائدا" لا يدفع الراسمالي اجرة عنه اي يعطي القيمة الزائدة. و بالتالي فمن وجهة نظر عملية الانتاج يجب ان نميز قسمين في الراسمال: الراسمال الثابت الذي ينفق على وسائل الانتاج (الات, و ادوات عمل, و مواد اولية الخ.) وتنتقل قيمته كما هي (دفعة واحدة او دفعات) الى المنتوج التام الصنع, و الراسمال المتغير (المتحرك) الذي ينفق على قوة العمل. و قيمة هذا الراسمال لا تظل ثابتة بل تنمو في عملية الانتاج, اذ تخلق القيمة الزائدة. وعليه فمن اجل التعبير عن درجة استثمار الراسمال لقوة العمل يجب مقارنة القيمة الزائدة لا بالراسمال كله بل بالراسمال المتغير. ان معدل القيمة الزائدة الاسم الذي اطلقه ماركس على هذه العلاقة سيكون في مثلنا 636 او 100 بالمائة.
ان المقدمة التاريخية لظهور راسمال هي في الدرجة الاولى تراكم كمية معينة من المال في ايدي عدد من الافراد في حين بلغ انتاج البضائع درجة ارتفاع نسبي, و هي, في الدرجة الثانية, وجود عمال "احرار" من وجهتين: من وجهة انهم احرار من كل تضييق و من كل تقيد في بيع قوة عملهم, و احرار لانهم لا يملكون ارضا و لا وسائل انتاج بوجه عام, اي وجود عمال احرار و غير مقيدين, اي وجود عمال "بروليتاريين" لا يستطعيون العيش بغير قوة عملهم.
ان ازدياد القيمة الزائدة امر ممكن بفضل وسيلتين اساسيتين: تمديد يوم العمل ("قيمة زائدة مطلقة") و التقليص في يوم العمل الضروري ("قيمة زائدة نسبية"). وعندما يحلل ماركس الوسيلة الاولى يرسم لوحة رائعة لنضال الطبقة العاملة في سبيل تقليص يوم العمل و لتدخل سلطة الدولة في سبيل تمديده (من القرن الرابع عشر الى القرن السابع عشر) و في سبيل تقليصه (تشريع المصانع في القرن التاسع عشر). و منذ نشر كتاب "راس المال" قدم تاريخ الحركة العمالية في جميع البلدان المتمدنة في العالم عددا لا يحصى من الوقائع الجديدة التي تبرهن على صدق هذه اللوحة.
ان ماركس عند تحليله القيمة الزائدة النسبية يدرس المراحل التاريخية الاساسية الثلاث لزيادة انتاجية العمل من قبل الراسمالية: 1. التعاون البسيط, 2. تقسيم العمل و المانيفاكتورة, 3. الالات و الصناعة الكبرى. ان العمق الذي يكشف به ماركس الخطوط الاساسية النموذجية لتطور الراسمالية يظهر فيما يظهر من كون دراسة الصناعة المسماة الصناعة "الحرفية" في روسيا تقدم ادلة وافرة جدا توضح و تبرز المرحلتين الاولتين من هذه المراحل الثلاث. اما عمل الصناعة الميكانيكية الضخمة الثوري الذي وصفه ماركس في 1867 فقد ظهر خلال نصف القرن المنصرم منذ ذلك الحين في عدة بلدان "جديدة" (روسيا و اليابان و غيرهما).
وبعد فان الامر الهام و الجديد الى اقصى حد عند ماركس هو تحليل تراكم الراسمال اي تحول قسم من القيمة الزائدة الى راسمال و استعماله لا لسد حاجات الراسمالي الشخصية او لارضاء نزواته بل للانتاج من جديد. لقد اشار ماركس الى خطا الاقتصاد السياسي الكلاسيكي السابق كله (ابتداء من ادم سميث) الذي يعتبر ان كل القيمة الزائدة التي تتحول الى راسمال تذهب الى الراسمال المتغير بينما هي في الحقيقة تنقسم الى وسائل انتاج و راسمال متغير. و في عملية تطور الراسمالية و تحولها الى الاشتراكية يرتدي ازدياد حصة الراسمال الثابت بمزيد من السرعة (من اصل مجمل راس المال) بالقياس الى حصة الراسمال, المتغير اهمية اولية.
ان تراكم الراسمال بتعجيله في احلال الالة محل العمال وبخلقه الثراء في قطب, و البؤس في قطب اخر, يخلق ايضا ما يسمى "باحتياطي جيش العمل" او "الفائض النسبي من العمال" او "فيض السكان الراسمالي" الذي يرتدي اشكالا متنوعة الى اقصى حدود التنوع, و يمكن الراسمال من ان يوسع الانتاج بسرعة بالغة. ان هذه الامكانية اذا نسقت مع التسليف وتراكم الراسمال بشكل وسائل الانتاج تعطينا فيما تعطيه مفتاحا لفهم ازمات فيض الانتاج التي كانت في البدئ تحصل على نحو دوري في البلدان الراسمالية مرة في كل عشر سنوات تقريبا و من ثم في فترات اقل تقاربا و اقل ثباتا. و يجب التمييز بين تراكم الراسمال على اساس الراسمالية و التراكم المسمى بالتراكم "البدائي" الذي يتصف بفصل الشغيل فصلا عنيفا عن وسائل الانتاج و يطرد الفلاحين من اراضيهم و بسرقة الاراضي المشاعية و بنظام المستعمرات و بالديون العامة و برسوم الحماية الخ...ان "التراكم البدائي" يخلق البروليتاري "الحر" في قطب, و في قطب اخر القابض على المال, الراسمالي.
ويصف ماركس "الاتجاه التاريخي للتراكم الراسمالي" بهذه العبارات المشهورة: "ان انتزاع ملكية المنتجين المباشرين يتم باشد النزعات الى الهدم و التدمير بعدا عن الشفقة وبدافع من احط المشاعر و احقرها و اشدها تفاهة و حقدا. فالملكية الخاصة المكتسبة بعمل المالك" (عمل الفلاح و الحرفي) "و القائمة اذا جاز التعبير على اندماج الشغيل الفردي المستقل مع ادوات و وسائل عمله تزيحها الملكية الخاصة الراسمالية التي ترتكز على استثمار قوة عمل الغير الذي لا يتمتع بغير حرية شكلية ...اما من يتعلق الامر الان بانتزاع ملكيته فلم يعد المقصود العامل الذي يدير استثمارة مستقلة بنفسه بل الراسمالي الذي يستثمر العديد من العمال. ان انتزاع الملكية هذا يتم بفعل القوانين الملازمة للانتاج الراسمالي نفسه عن طريق تمركز الرساميل. ان راسماليا واحدا يقضي على الكثيرين من امثاله. و الى جانب هذا التمركز اي انتزاع بعض الراسماليين ملكية عدد كبير من امثالهم يتطور الشكل التعاوني لسير العمل على مقياس يتسع اكثر فاكثر كما يتطور تطبيق العلم على التكنيك تطبيقا فطنا و متعقلا و استثمار الارض استثمارا منهجيا وتحويل وسائل العمل الى وسائل للعمل لا يمكن استعمالها الا استعمالا مشتركا و توفير جميع وسائل الانتاج باستعمالها كوسائل انتاج لعمل اجتماعي منسق و دخول جميع الشعوب في شبكة السوق العالمية و تتطور الى جانب كل ذلك الصفة العالمية للنظام الراسمالي. و بقدر ما يتناقص باستمرار عدد دهاقنة الراسمال الذين يغتصبون و يحتكرون جميع منافع عملية التحول هذه بقدر ما يشتد و يستشري البؤس و الظلم و الاستعباد و الانحطاط و الاستثمار و بقدر ما يزداد ايضا تمرد الطبقة العاملة التي تتثقف و تتحد و تنتظم بفعل الية عملية الانتاج الراسمالي نفسها. وهكذا يصبح احتكار الراسمال قيد لاسلوب الانتاج الذي نشا معه و به. ان تمركز وسائل الانتاج و جعل العمل الاجتماعيا ينتهيان الى حد انهما لا يعودان يتطابقان مع اطارهما الراسمالي فينفجر. ان الساعة الاخيرة للملكية الخاصة الراسمالية تدق. ان مغتصبي الملكية تنزع منهم ملكيتهم" ("راس المال", المجلد الاول).
ثم ان ما هو جديد و ذو اهمية كبرى انما هو تحليل ماركس في المجلد الثاني من "راس المال" لتجديد انتاج الراسمال الاجتماعي بمجموعه. و هنا ايضا لا ياخذ ماركس بعين الاعتبار ظاهرة عامة و لا جزءا من الاقتصاد الاجتماعي بل الاقتصاد الاجتماعي بكليته. ان ماركس عند اصلاحه خطا الكلاسيكيين المشار اليهم انفا يقسم مجموع الانتاج الاجتماعي الى قسمين كبيرين: اولا, انتاج وسائل الانتاج و ثانيا, انتاج سلع الاستهلاك. ثم, بالاستناد الى ارقام ياخذها على سبيل المثال يدرس درسا دقيقا تداول الراسمال الاجتماعي بمجموعه سواء في تجديد الانتاج البسيط ام في التراكم. و في المجلد الثالث من "راس المال" تجد مسالة المعدل الوسطي للربح حلا لها بالاستناد الى قانون القيمة. ولقد تححق تقدم كبير في العلم الاقتصادي نظرا الى ان ماركس يبني تحليله على ظواهر اقتصادية كثيرة على مجموع الاقتصاد الاجتماعي لا على ظواهر منعزلة او على مظهر المزاحمة الخارجي السطحي الذي غالبا ما يقف عنده الاقتصاد السياسي المبتذل او ما يسمونه نظرية الحد الاقصى من النفع الحديثة.30 ان ماركس يحلل في الدرحة الاولى مصدر القيمة الزائدة ليدرس بعد ذلك انقسامها الى ربح و فائدة و ريع عقاري. اما الربح فهو نسبة القيمة الزائدة الى مجموع الراسمال الموظف في مشروع ما. و الراسمال "ذو التركيب العضوي العالي"(اي عندما يتجاوز الراسمال الثابت الراسمال المتغير بنسب اعلى من المعدل الاجتماعي الوسطي) يعطي معدلا من الربح ادنى من المعدل الوسطي. و الراسمال "ذو التركيب العضوي المنخفض" يعطي معدلا من الربح اعلى من المعدل الوسطي. ان تزاحم الراساميل و انتقالها الحر من فرع الى اخر يحملان في الحالتين معدل الربح الى المعدل الوسطي. ان مجموع قيم جميع البضائع في مجتمع معين يوازي مجموع اثمان البضائع ولكن في كل مشروع بمفرده و بفعل المزاحمة تباع البضائع لا بحسب قيمتها بل بسعر الانتاج ( او السعر الانتاجي) الذي يعادل الراسمال المصروف مضافا اليه الربح الوسطي.
وهكذا فان انحراف السعر عن القيمة و التوزيع المتساوي للربح – هذا الواقع الذي لا يقبل الجدل و المعروف لدى الجميع – يوضحه ماركس تمام الايضاح بالاستناد الى قانون القيمة اذ ان مجموع قيم جميع البضائع يعادل مجموع اسعارها. ولكن الطريق من القيمة (الاجتماعية) الى الاسعار (الافرادية) ليس بسيطا و مباشرا بل طريق معقد جدا. فمن الطبيعي تماما في مجتمع يكون فيه منتجو البضائع متفرقين و غير مرتبطين فيمن بينهم الا بواسطة السوق ان لا يسري مفعول القوانين الا بصورة وسطية اجتماعية عامة مع ازالة الانحرافات الافرادية من هذه الجهة و تلك.
ان ازدياد انتاجية العمل يعني نموا اسرع في الراسمال الثابت بالقياس الى الراسمال المتغير. ولكن لما كانت القيمة الزائدة لا ترتبط الا بالراسمال المتغير اصبح من المفهوم ان يميل معدل الربح (اي نسبة القيمة الزائدة الى مجموع الراسمال لا الى القسم المتغير منه فقط) الى الهبوط. ان ماركس يحلل تحليلا دقيقا جدا هذا الميل كما يحلل الظروف التي تخفيه او تعاكسه. ودون ان نتوقف عند الفصول العظيمة الاهمية في المجلد الثالث المكرسة لراسمال الربا و الراسمال التجاري و الراسمال النقدي ننتقل الى الجزء الاكثر اهمية الا وهو نظرية الريع العقاري. لما كانت مساحة الارض محدودة و يشغلها تماما في البلدان الراسمالية ملاكون فرديون اصبح ثمن انتاج المنتجات الزراعية لا يتحدد بواسطة نفقات الانتاج على ارض وسطية بل على ارض من النوع الاسوا و لا بواسطة الشروط الوسطية لنقل المنتجات الى السوق بل تبعا للشروط الاقل ملاءمة. ان الفرق بين هذا الثمن و ثمن الانتاج على الارض اجود نوعا (او في شروط احسن) يعطي الريعي الفرقي (المتفاوت). ان ماركس بالاستناد الى تحليل مفصل لهذا الريع يبين فيه ان هذا الريع ينجم عن التفاوت ( الفرق) في جودة الاراضي و عن تفاوت (فرق) الرساميل الموظفة في الزراعة قد اوضح وضوحا تاما (انظر ايضا "نظريات القيمة الزائدة" حيث يستحق انتقاد رودبرتوس اهتماما خاصا) خطا ريكاردو الذي يزعم ان الريع الفرقي لا يحصل الا بالانتقال الدائم من اراض اكثر جودة الى اراض اقل جودة. فالامر على خلاف ذلك: فان تغيرات معاكسة قد تحدث ايضا. فالاراضي من فئة معينة تتحول الى اراض من فئة اخرى (بفعل ارتفاع مستوى الزراعة و نمو المدن الخ.). و القانون الشهير"قانون تناقص خصب التربة" يبدو بمثابة خطا عميق يرمي الى القاء عيوب الراسمالية و حدودها الضيقة و تناقضاتها على كاهل الطبيعة. ثم ان تساوي الربح في جميع فروع الصناعة و الاقتصاد الوطني بوجه عام يفترض حرية تامة في المزاحمة و حرية نقل الراسمال من فرع الى اخر. و لكن الملكية الخاصة للارض تخلق احتكارا و عقبة في وجه حرية النقل هذه. ان منتجات الزراعة التي تتميز بتركيب منخفض في راسمالها و التي تعطي بالتالي معدلا اعلى للربح الفردي لا تدخل بفعل هذا الاحتكار في عملية تساوي معدل الربح الحرة تماما. فالمالك الذي يحتكر الارض يتمكن من ابقاء السعر في معدل اعلى من الوسط و هذا السعر الاحتكاري يخلق الريع المطلق. ان الريع الفرقي لا يمكن الغاؤه في النظام الراسمالي و عكسا لذلك يمكن الغاء الريع المطلق بتاميم الارض مثلا عندما تصبح الارض ملكا للدولة. ان اتقال الارض هذا الى الدولة يعني تقويض احتكار الملاكين الفرديين و يعني ايضا حرية في المزاحمة اكثر انسجاما و اكتمالا في الزراعة. و لهذا كما يقول ماركس تقدم البرجوازيون الراديكاليون اكثر من مرة في التاريخ بهذا المطلب البرجوازي التقدمي القائل بتاميم الارض. هذا المطلب الذي يخيف مع ذلك اكثر البرجوازية لانه "يمس" عن قرب احتكارا اخر له في ايامنا هذه اهمية خاصة و "حساسية" خاصة و هو احتكار وسائل الانتاج بوجه عام. (ان هذه النظرية حول الربح الوسطي للراسمال و حول الريع العقاري المطلق قد عرضها ماركس باسلوب رائع بسيط و مختصر وواضح في رسالته الى انجلز بتاريخ 2 اب/اوت سنة 1862و رسالته المؤرخة في 9 اب/اوت سنة ,1862 و من الاهمية بمكان ايضا الاشارة في تاريخ الريع العقاري الى تحليل ماركس الذي يبين تحول الريع-العمل (عندما يخلق الفلاح نتاجا اضافيا بعمله في ارض الملاك) الى ريع-انتاج او الى ريع عيني (عندما يخلق الفلاح على ارضه نتاجا اضافيا يقدمه للملاك بموجب "الاكراه غير الاقتصادي") ثم الى ريع نقدي (اذ اذ يتحول هذا الريع العيني الى نقد – "اوبروك" اي اتاوة في روسيا القديمة – بسبب تطور انتاج البضائع) و اخيرا الى ريع راسمالي عندما يحل محل الفلاح في الزراعة رب عمل يزرع الارض باللجوء الى العمل الماجور. و لنشر بصدد هذا التحليل "لتولد الراع العقاري الراسمالي" الى جملة من افكار ماركس العميقة (ذات الاهمية الخاصة بالقياس الى البلدان المتاخرة كروسيا مثلا) حول تطور الراسمالية في الزراعة. "مع تحول الريع العيني الى ريع نقدي, تتكون بالضرورة, في الوقت نفسه و حتى مسبقا, طبقة من المياومين الذين لا يملكون و يعملون بالاجرة. و في الوقت الذي تتكون فيه هذه الطبقة التي لم تكن ظهرت الا ظهورا متفرقا يكون الفلاحون الميسورون الملزمون بدفع اتاوة قد اعتادوا بالطبع استثمار بعض الاجراء الزراعيين لحسابهم الخاص كما كان يحدث تماما في النظام الاقطاعي, حيث كان للفلاحين الاقنان الميسورين اقنان اخرون ايضا. و من هنا كانت تتوافر لهم امكانية جمع الثورة شيئا فشيئا و تحويل انفسهم الى راسماليين مقبلين.
وهكذا تتكون بين مالكي الارض القدماء, ممن يديرون استثمارات مستقلة, بيئة تنبت مستاجري الاراضي الراسماليين الذين يرتبط تطورهم بالتطور العام للانتاج الراسمالي خارج الزراعة" ("راس المال", المجلد الثالث, 2, ص 332)..."ان انتزاع ملكية قسم من سكان الارياف و طردهم من الريف لا "يحرران" عمالا ووسائل للعيش و العمل لهم من اجل الراسمال الصناعي و حسب بل يخلقان السوق الداخلية ايضا" ("راس المال", المجلد الاول, 2, ص 778). ان املاق و خراب سكان الارياف يسهمان بدورهما في انشاء جيش احتياطي من العمال للراسمال . لهذا في كل بلد راسمالي "يوجد دائما قسم من سكان الارياف يوشك على الدوام ان يتحول الى سكان مدن او الى سكان يعملون في الصناعة (اي غير زراعيين). وهذا المورد لتزايد السكان النسبي لا ينضب ابدا...فالعامل الزراعي مكره على تقاضي الحد الادنى من الاجرة و يقف دائما على احدى رجليه في مستنقع الاملاق" ("راس المال", المجلد الاول, 2, ص 668). ان ملكية الفلاح الخاصة للاراض التي يزرعها تؤلف اساس الانتاج الصغير تؤلف الشرط الذي يسمح لهذا الانتاج بان يزدهر و ياخذ شكلا كلاسيكيا. و لكن هذا الانتاج الصغير لا ينسجم الا مع الاطارات البدائية الضيقة للانتاج و المجتمع. ففي النظام الراسمالي "لا يتميز استثمار الفلاحين عن استثمار البروليتاريا الصناعية الا من حيث الشكل. فالمستثمر هو هو اي الراسمال كلا بمفرده يستثمرون الفلاحين كلا بمفرده بواسطة الرهن و الربا. ان طبقة الراسماليين تستثمر طبقة الفلاحين بواسطة الضرائب" ("نضال الطبقات في فرنسا"). "ان ارض الفلاح الصغيرة لم تعد سوى ذريعة تتيح للراسمال ان يجني من الارض ربحا و فائدة و ريعا و ان يترك لمالك الارض نفسه امر الاهتمام بالطريقة التي يراها ناجحة للحصول على اجرته" ("18 برومير"). بل ان الفلاح يقدم عادة الى المجتمع الراسمالي اي الى طبقة الراسمالي قسما من اجرته و يقع على هذا النحو "في حالة المكتري الارلندي مع احتفاظه بمظهر المالك الفردي" ("نضال الطبقات في فرنسا"). فما اذن "احد الاسباب التي تؤدي الى ان يكون سعر الحبوب في البلدان التي تسود فيها الملكية الصغيرة للارض اقل منه في البلدان ذات اسلوب الانتاج الراسمالي؟" ("راس المال", المجلد الثالث, 2, ص 340) ذلك ان الفلاح يقدم مجانا الى المجتمع (اي طبقة الراسماليين) قسما من نتاجه الزائد. "ان هذا السعر المنخفض (اي سعر الحبوب و بقية المنتجات الزراعية) ينجم اذن عن فقر المنتجين و لا ينجم ابدا عن انتاجية عملهم". ("راس المال", المجلد الثالث, 2, ص 340). فان الملكية الزراعية الصغيرة التي هي الشكل العادي للانتاج الصغير تتدهور في النظام الراسمالي و تبيد و تهلك. "ان الملكية الصغيرة للارض تحول بحكم طبيعتها دون تطور قوى العمل الانتاجية الاجتماعية و اشكال العمل الاجتماعية و تمركز الرساميل الاجتماعي و تربية المواشي على نطاق كبير و تطبيق العلم تطبيقا مطردا. ان الربا و نظام الضرائب يحتمان خراب الملكية الزراعية الصغيرة في كل مكان. فينتزع من الزراعة الراسمال الموظف لشراء الارض. وتجزا وسائل الانتاج الى ما لانهاية و يتبعثر المنتجون". (ان التعاونيات اي جمعيات الفلاحين الصغار التي تقوم باعظم دور تقدمي برجوازي يمكنها فقط ان تضعف هذا الاتجاه دون ان تمحوه و يجب ان لا ننسى ايضا ان هذه التعاونيات تعطي كثيرا للفلاحين الميسورين و لكنها تعطي قليلا جدا لجمهور الفلاحين الفقراء او لا تعطيهم شيئا تقريبا ثم ان الامر ينتهي بهذه الجمعيات الى ان تستثمر بنفسها العمل الماجور). "فهناك تبذير هائل للقوة الانسانية. ان تفاقم شروط الانتاج تفاقما مطردا و ارتفاع اسعار وسائل الانتاج هما قانونان ملازمان للملكية الصغيرة المجزاة". ("راس المال المجلد الثالث). ففي الزراعة كما في الصناعة لا يظهر تحول الراسمالية اسلوب الانتاج على حساب "شهادة المنتج". "ان تبعثر العمال الزراعيين على مساحات كبرى يحطم قوة مقاومتهم في حين يزيد التجمع قوة مقاومة عمال المدن. و في الزراعة الحديثة الراسمالية كما في الصناعة الحديثة يتم التوصل الى نمو قوة العمل الانتاجية و الى زيادة قابليته للحركة عن طريق تحطيم قوة العمل بالذات و استنفادها. و من جهة اخرى كل تقد للزراعة الراسمالية هو تقدم لا في فن نهب الشغيل فحسب بل في فن نهب الارض ايضا ...فالانتاج الراسمالي اذن لا يطور التكنيك و تنسيق عملية الانتاج الاجتماعية الا باستنزافه في الوقت نفسه الينبوعين اللذين تنبثق منهما كل ثروة: الارض و الشغيل" ("راس المال", المجلد الاول, نهاية الفصل الثالث عشر).