في زحمة السياسات والتناقضات .. قرر محمود درويش ان يموت كما كان يقرر كل شيئ في حياته ، بعد ان جعلنا نشعر انه من المخلدين على الارض كما هو مخلد فينا
وانه سينجو من تلك العملية الجراحية كما نجا من عدة ازمات صحية كادت تودي بحياته قبلا
ولكنه قرر ان يموت فقد كان متهيأ تماما للموت
وفي يوم 9 \ آب \ 2008 .... انفجرت تلك القنبلة الموقوتة المسماة طبيا بالشريان
وغاب جسدا عن تلك الثورة التي لازمته طيلة عمره لكنَّه سيبقى في ضميرها للأبد .
عاش النكبة والهجرة وعمره سبع سنوات فأبى إلاَّ ان يعود الى الوطن السليب وهو بعمر الزهور بعد عام واحد من الهجرة رغم كل المخاطر
ليعيش بجوار قريته مسقط رأسه التي دمرها الصهاينة وبنوا على اطلالها قرية يهودية
رحل محمود درويش تاركا خلفه إرثا شعريا يجمع كل معاني الانسانية في الفكر والثورة
.................................... لروحه النقية كل الرحمة
وبهذه المناسبة أودُّ أن نردد سوية جزء من رائعته الخالدة ( الجدارية )
ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي . ولي
شَبَحي وصاحبُهُ . وآنيةُ النحاس
وآيةُ الكرسيّ ، والمفتاحُ لي
والبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي
لِيَ حَذْوَةُ الفَرَسِ التي
طارت عن الأسوار … لي
ما كان لي . وقصاصَةُ الوَرَقِ التي
انتُزِعَتْ من الإنجيل لي
والملْحُ من أَثر الدموع على
جدار البيت لي …
واسمي ، إن أخطأتُ لَفْظَ اسمي
بخمسة أَحْرُفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي :
ميمُ / المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ / الحديقةُ والحبيبةُ ، حيرتانِ وحسرتان
ميمُ / المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
الموعود منفيّاً ، مريضَ المُشْتَهَى
واو / الوداعُ ، الوردةُ الوسطى ،
ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ ، وَوَعْدُ الوالدين
دال / الدليلُ ، الدربُ ، دمعةُ
دارةٍ دَرَسَتْ ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني /
وهذا الاسمُ لي …
ولأصدقائي ، أينما كانوا ، ولي
جَسَدي المُؤَقَّتُ ، حاضراً أم غائباً …
مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن …
لي مِتْرٌ و75 سنتمتراً …
والباقي لِزَهْرٍ فَوْضَويّ اللونِ ،
يشربني على مَهَلٍ ، ولي
ما كان لي : أَمسي ، وما سيكون لي
غَدِيَ البعيدُ ، وعودة الروح الشريد
كأنَّ شيئا ً لم يَكُنْ
وكأنَّ شيئاً لم يكن
جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العَبَثيِّ …
والتاريخُ يسخر من ضحاياهُ
ومن أَبطالِهِ …
يُلْقي عليهمْ نظرةً ويمرُّ …
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
واسمي -
وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت -
لي .
أَما أَنا - وقد امتلأتُ
بكُلِّ أَسباب الرحيل -
فلستُ لي .
أَنا لَستُ لي