بهجت حمدان الهارب من الاعدام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم فريد الفالوجي
مقال منقول
بعد نكسة يونيو 1967 .. وبينما الطائرات الاسرائيلية كانت تمرح آمنة كيفما تشاء في سماء مصر . . كان بهجت حمدان ينقل الى العدو أولاً بأول خرائط وصور القواعد العسكرية المصرية . . ويشعر بنشوة غامرة لنجاحه في "العمل". . ولثقة الموساد في معلوماته.
وأمام تدفق الأموال عليه. . كوّن شبكة جاسوسية خطيرة في القاهرة . . لكي يزداد ثراءاً ورونقاً .. وتوحشاً.
ولحظة سقوطه في قبضة المخابرات المصرية.. صرخ غير مصدق: مستحيل . . مستحيل . . كيف توصلتم إليّ.. ؟
لقد دربوني جيداً في أوروبا. . بحيث لا أسقط أبداً. . !!!
لغة الجسد
أصيبت المخابرات الإسرائيلية بصدمة قاسية عندما انكشف جاسوسها المدرب بهجت حمدان . .وزلزل النبأ كبار ضباطها الذين أعمتهم الثقة وغلفهم الغرور . . ذلك لأن الجاسوس مدرب جيداً في أوروبا بواسطة أمهر الخبراء. . وحصل على دورات تؤهله لكل المهام التجسسية الصعبة. . دون أن يثير شكوك المخابرات المصرية، وظل العميل المدرب "نائما" لسنوات في أوروبا انتظاراً للحظة الانطلاق. .
لقد أجاد فنون التجسس دراسة. عكس غالبية الخونة الذين يُدفع بهم عقب تجنيدهم مباشرة لممارسة العمل ضد بلادهم . . وكان تجنيده قد تم بواسطة نقطة ضعفه – المال – الذي ظل يلهث وراءه .. الى أن وقع.
ولد بهجت يوسف حمدان بالاسماعيلية في 24 ديسمبر 1932 لأب ثري يعمل في التجارة اجتهد في عمله لتأمين حياة كريمة لأسرته. مضحياً بكل ما لديه في سبيل تعليم أولاده وتبوئهم مناصب مرموقة في المجتمع.
وأمضى بهجت طفولته على شاطئ القناة في المدينة الجميلة الساحرة. . ولما حصل على الشهادة الاعدادية كان والده قد قرر الانتقال نهائياً الى القاهرة بعدما توسعت تجارته واشتهر اسمه . . فالتحق بهجت بمدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية . . وتبلورت شخصيته بها وظهر حبه وولعه بالرسم والفنون . . للدرجة التي جعلته يهرب كثيراً من المدرسة ليزور المتاحف والمعارض الفنية. . وكان ينفق مصروفه على شراء الألوان وأدوات الرسم، الأمر الذي استدعى تدخل والده لصرفه عن هوايته التي رآها الأب مضيعة للوقت على حساب مستقبله.
وفي عام 1950 نال بهجت حمدان شهادة الثانوية العامة بصعوبة. . واتجهت نيته الى الالتحاق بأحد المعاهد الفنية لتنمية موهبته. . لكن الأب عارض بشدة مصراً على تعليمه كأبناء الباشوات. . وأرسل به الى ألمانيا الغربية لدراسة الهندسة المعمارية في جامعاتها.
وأمام رغبة الأب وإصراره.. حزم الشاب حقائبه وطار الى ميونيخ وفي نفسه غصة لضياع حلمه في أن يكون رساماً.
وفي ميونيخ تصدع عقل الفتى الأغر .. فقد وجد نفسه فجأة بداخل مجتمع غريب عن طبيعته كشرقي. . مجتمع يفيض تحرراً وانفتاحاً يستطيع الامتزاج به بسهولة .. لذلك انطوى على نفسه في بادئ الأمر. . وفشلت الأسرة الألمانية التي يقيم معها في إخراجه من عزلته.. فطلبت من إدارة الجامعة استبداله بآخر. . وانتقل بهجت بعدها الى سكن بيوت الطلاب. . لدراسة اللغة مبتعداً عن المغريات التي تستهوي الشباب. . وكرس كل جهده ووقته لذلك حتى وقعت له حادثة بدلت طريقه وطباعه.
فقد دعاه زملاؤه الطلاب لقضاء سهرة الكريسماس بأحد المراقص. . وفي النادي الليلي حيث الخمر والرقص والفتيات الحسناوات والغزل .. تعرف بشاب مغربي قدمه الى إحدى صديقاته. . وعلى "البيست" أخذ يراقصها. . فتناثرت عنه انطوائيته وضاع خجله.. وانقلب من وقتها الى شاب جديد مليء بالثقة في نفسه.. يملك القدرة على إدارة الحوار بشتى أشكاله.
بعدها . تعددت السهرات مع الفتاة الألمانية .. التي أخذت تحيطه بالاهتمام فأحبها. . ولم يعد بمستطاعه الافتراق عنها يوماً واحداً. . ومن المصروف الذي كان يرسله أبوه . .أخذ ينفق عليها في المطاعم والبارات والمنتزهات .. مضحياً بأوقات الدراسة والاستذكار. . وكانت النتيجة الطبيعية رسوبه في أولى سنواته الجامعية. . ونجاحه يتفوق في تعلم لغة الجسد وتشريح مفاتنه.
الأبواب الموصدة
انشغل بهجت حمدان بحياته الأوروبية المتحررة. . واكتشف في نفسه لحولة تغري الفتيات وتسحر النساء. . فلم يعد يقنع بواحدة منهن. . الى أن ساءت سمعته بين الأوساط الطلابية العربية..
ولما علم أبوه بنبأ رسوبه أصيب بخيبة أمل. . وبرر له الابن أسباب فشله التي أرجعها الى صعوبة اللغة الألمانية واختلاف الطقس وظروف الحياة.. فسكت الأب على مضض. . وحذره من تكرار الرسوب مهدداً بأنه سيضطر الى قطع المصروف عنه.
لكن الشاب العابث لم يبد رغبة بينه وبين نفسه في تغيير مساره الشائن. . إذ استمر على حاله في المجون. . حتى جاءت الامتحانات. . ورسب للمرة الثانية.. وأخذت الجامعة بتقارير أساتذته التي تصفه بأنه سلبي لا يبذل جهداً يذكر في تحصيل العلوم فتم فصله. . وأرسلت الجامعة بصورة من قرارها الى والده بالقاهرة فصدم .. وكتب في الحال الى ابنه يطلب منه الرجوع ليعاونه في أعماله التجارية. .
فهل انصاع الابن.. ؟ وهل قبل وداع حياة التحرر هكذا بسهولة .. ؟
بالطبع كان الأمر شديد الوقع على نفسه، فهو لم يعد يتخيل كيف يرضى بالعيش في مجتمع القاهرة المغلق بعد ذلك. .
كان مجرد التفكير في ذلك يؤرقه. . ويدفعه لأن يقاوم رغبة والده في العودة .. فقد ألف الحياة الأوروبية بكل صنوفها وأشكالها.. وفي حرمانه منها الظلم والموت البطيء.
ومنذ تلك اللحظة . . اتخذ قراره بألا يعود الى مصر ومقاومة تهديدات والده بإثبات ذاته من خلال الإنفاق على نفسه. . وساعدته ظروف علاقاته المتشعبة في العمل بإحدى الشركات التجارية. . وهيأ له راتبه حياة مجون لا تقل عما كانت عليه من قبل .. فداوم على البحث عن ملذاته . . وأصبح زبوناً دائماً ومألوفاً بشوارع شتافوس وشتراسة وشوانبخ حيث المومسات متراصات في الفتارين وعلى النواصي يساومن المارة.
وما إن هل عام 1955 حتى طرأ حادث جديد على حياته.. إذ تعرف بالحسناء "إنجريد شوالم" الألمانية الرقيقة وأحبها.. وبادلته الفتاة الحب بإخلاص وسعت لانتشاله من الفشل الذي يوجهه . . والحياة الرخيصة التي انغمس فيها.. وبعدما تزوجها حرصت إنجريد على تحفيزه لدراسة الهندسة إرضاء لأسرته في مصر. .
هكذا وقفت زوجته الى جواره لا هم لها سوى الارتقاء به لأجل حياة أفضل. . فقد مرت سنوات قليلة على انتهاء الحرب العالمية الثانية . . التي خرجت منها ألمانيا مهزومة محطمة . . مقسمة .. وكانت بحاجة الى كوادر علمية وفنية لإعمارها من جديد.. والدخول بها الى دائرة التنافس الاقتصادي والصناعي.
لكن فتانا كان قد توصل الى هدف جند كل حواسه لتحقيقه. . وهو الإثراء بشتى الطرق ليكون من رجال المال والأعمال المشهورين. . ولأنه بلا خبرة . . ولا تدعمه شهادات علمية .. فشل فشلاً ذريعاً في ان يكون إنساناً ناجحاً ومرموقاً.
وفي عام 1958 حصل بطرق ملتوية على شهادة في الهندسة الانشائية .. قام بتوثيقها في السفارة المصرية وعاد بها الى القاهرة ومعه زوجته. . فأثلج صدر أبيه وغمره بالفرحة ..
أحبت إنجريد الأسرة الجديدة وعشقت جو القاهرة .. وسرعان ما تأقلمت مع العادات الاجتماعية وأصبحت جزءاً من نسيج الأسرة..
وأمام ضغوط أبويه وإلحاحهما المستميت. . وافق بهجت على البقاء للعمل والعيش في القاهرة. . وبمساعدة الأب التحق بوزارة الاسكان. . وعمل في مشروع "الخمس سنوات" الذي جندت له الحكومة وقتذاك إمكاناتها الهائلة لإنجاحه.
كانت ظروف العمل الجديد تتيح لبهجت أن يغش ضميره. . ويفتح يديه لتلقي المال الحرام. . فعاودته من جديد أحلام الثراء التي تكسرت في ألمانيا. . وأراد تحقيقها في بلده.. ذلك لأن راتبه الضئيل لا يمكنه من ارتياد المراقص. . والظهور أمام زوجته بمظهر أعلى يقوف موارده..
لهذا عرف طريق الرشاوي مستغلاً مركزه الوظيفي. . وتقرب كثيراً من أصحاب الشركات الأجنبية بالقاهرة. . وأطلعهم على أسرار المناقصات والعطاءات التجارية فأغدقوا عليه بالأموال .. حتى فاحت رائحته بين الموظفين، واشتم فيه المسؤولون فساد الذمة ففصل من العمل .. وأغلقت في وجهه أبواب الحياة في مصر. . فغادرها الى لبنان يائساً ومعه انجريد الحزينة..
وفي لبنان أدركه الفشل في الحصول على عمل مناسب. . فاقترحت عليه زوجته أن يعودا الى ألمانيا حيث فرص العمل متوفرة هناك. لكنه رفض بشدة .. فهي لا تدري شيئاً عن شهاداته الدراسية المزورة التي لا يستطيع إبرازها في ألمانيا.
ومع احتدام الخلاف بينهما. . حملت أنجريد حقيبتها غاضبة حانقة وسافرت الى ميونيخ وحدها. . بينما طار هو الى باريس يمني نفسه بالمال الوفير. . والباريسيات الفاتنات ذوات القدود المائسة والأنوثة والدلال.
جاسوس للبيع
كانت باريس في ذلك الوقت من صيف 1960 تضج بالحياة والحركة والجمال. . حيث يرتادها مشاهير العالم بحثاً عن الجديد في عالم الأزياء. . أو لالتماس الهدوء بين ربوعها. . وتنتشر بشوارعها شتى الوجوه والألوان والغرائب. . فهي عاصمة النور في أوروبا. . ومأوى الفن . . وملاذ الصعاليك. . وهواة تصيد الفرص على مقاهيها. . وايضاً. . وكر آمن لصائدي الجواسيس والخونة لكل أجهزة المخابرات.
نزل بهجت حمدان بفندق "ستار" بوسط المدينة .. وهو فندق بسيط يرتاده شباب المغتربين – وغالبيتهم أفارقة وآسيويون – لرخص سعره ولقربه من قلب العاصمة حيث المطاعم الرخيصة والمقاهي . . وسهولة المواصلات.
ومنذ وطئ بهجت فرنسا ضايقته مشكلة اللغة. . فهو يتكلم الألمانية بطلاقة وبعض الانجليزية. . أما الفرنسية فكان يجهل مفرداتها البسيطة التي لا تمكنه من التحرك بثقة وسط أناس يرفضون التعامل بغير لغتهم.
وفي اليوم التالي فوجئ بموظف الاستقبال يرحب به باهتمام. . وتحدث معه بالعربية السليمة. . واصفاً له السنوات التي قضاها في بورسعيد موظفاً بإحدى شركات الملاحة حتى غادرها إبان أزمة 1956.
كان الفرنسي اليهودي يعمل مخبراً لرجال الموساد في باريس. . تنحصر مهمته في التعرف على العرب النازحين الباحثين عن عمل. . أو أولئك الذين قدموا للسياحة أو الدراسة . . ويتولى بعد ذلك تقديمهم – كل حسب حالته – الى رجال الموساد . . فلما اطلع على ظروف بهجت أدرك بأنه صيد سهل . . فهو يمر بأزمة مالية ويواجه مشاكل مع زوجته الألمانية بسببها. . فضلاً عن وظيفته السابقة في مصر التي قربته من الكثيرين من رجالاتها في مختلف المواقع.
لذلك . . رتب له دعوة للعشاء بأحد المطاعم الراقية. . وهنا قدمه الى صديقه "جورج سيمون" ضابط الموساد الذي ظهر بشخصية رجل الأعمال. .
استشعر بهجت الأمان بعض الشيء. . واطمأن باله وهو يتجاذب بالألمانية أطراف الحديث مع جورج سيمون. . وطال الحديث بينهما في مجالات كثيرة تخص أحوال مصر اقتصادياً وتجارياً. . حتى تطرقا الى مشروع "الخمس سنوات" وفوجئ سيمون بمحدثه يخبره بأنه يمتلك ملفات كاملة عن المشروع يحتفظ بها في القاهرة. . وكذا تقارير اقتصادية خطيرة تدرسها الحكومة المصرية خاصة بوزارة الاسكان.
وبعد عدة لقاءات وسهرات في النوادي الليلية – بأموال الموساد بالطبع – قام جورج سيمون أثناءها بعملية "تشريح" متكاملة لفريسته. . من حيث ميوله ورغباته ونقاط ضعفه. . فتبين له أن الشاب المصري المفلس "يعبد القرش" .. ولديه أسباب قوية لأن يطرق كل السبل من أج الحصول على المال.
لذلك لم يكن من الصعب استقطابه .. وإحاطته بشعاعات من أمل في العمل والثراء. . وجاء الرد حاسماً من تل أبيب:
"مطلوب تجنيده وبأي ثمن".
وكان الثمن زهيداً جداً عندما سلمه عميل الموساد ألفاً وخمسمائة فرنك فرنسي .. على وعد بإيجاد عمل محترم له إذا ما كتب تقريراً وافياً عن مشروع "الخمس سنوات". . والخطوات التي تمت بشأنه. . والمعوقات التي تواجه مصر في تنفيذ سياساتها الاقتصادية. . وكانت هذه الخطة أولى محاولات تجنيد بهجت حمدان.
إن عملية تجنيد جاسوس جديد تعد من أكثر النشاطات المخابراتية صعوبة وخطورة. . ومنذ اللحظة الأولى في هذه العملية يجد صائد الجواسيس نفسه في موقف صعب. . فالشخص الذي اختاره لتجنيده ربما يفطن الى الحيلة . . وبذلك فقد كشف عن شخصيته له قبلما يتأكد من استجابته.
لذلك. . فالمهارة هنا لها الدور الأساسي في عملية تجنيد الجواسيس الجدد.. بمعنى أن العميل يجب أن يكون واثقاً من تقديره للموقف. . وأن يكون حذراً للغاية حتى يتمكن من التقهقر في الوقت المناسب إذا ما حالفه الفشل..
ولكي يضمن جورج سيمون إحكام حلقته حول بهجت حمدان . . رتب له لقاءً حاراً في "مصيدة العسل" مع سكرتيرته المتفجرة الأنوثة. . وهذا الأسلوب تميزت به الموساد عن سائر أجهزة المخابرات للسيطرة على المطلوب تجنيدهم .. وتفننت في استخدامه بتوسع . .حيث يتم تصوير هؤلاء في أوضاع شاذة .. وتسجيل حوارات سياسية تدينهم . . فتنهار أعصابهم حين مواجهتهم ولا يستطيعون الخلاص أو الفكاك.
وما إن ووجه بهجت بالأفلام العارية التي تحوي مشاهد مؤسفة .. وأحاديث مليئة بالسباب للعرب وقادتهم. . حتى بهت الصياد وتفصد عرقاً . . نعم .. بهت لأنه فوجئ بما لم يتوقعه أن يحدث له من قبل.
لقد صرخ بهجت حمدان في وجهه .
الصفقة الناجحة
كان اللعب قد أصبح مكشوفاً بين الصياد والفريسة. . وكانت الخطة تقتضي اولاً أن يسافر بهجت الى فرانكفورت حيث الانطلاقة من هناك . . بعد ذلك يتم عمل "ساتر" يختفي وراءه.
وفي فرانكفورت استقر الجاسوس الجديد بأحد فنادقها. . وأرسل الى زوجته إنجريد فأسرعت اليه سعيدة بقدومه. . وأنبأها بأنه التقى في باريس برجل أعمال كبير وعده بإيجاد عمل له في بورصة الأوراق المالية. . ومكثا معاً عدة أيام في نزهات خلوية صافية . . الى أن زاره "صموئيل بوتا" الخبير في أعمال البورصة والتجارة الدولية.
بدأ بوتا في تعليم بهجت كل ما يتصل بأعمال البورصة ودراسة السوق المصرفية، وعرفّه بالعديد من رجال الأعمال وهيأ له المناخ الملائم لكي يستوعب هذا النوع من العمل الذي يتطلب قدراً عالياً من الذكاء والمهارة . . وناضل ضابط المخابرات الاسرائيلية من أجل خلق رجل أعمال مصري ناجح .. للدفع به في الوقت المناسب الى مصر . . فيتعرف على علية القوم ورجال الأعمال بها. . مما يتيح له التغلغل بين الأوساط الراقية وذوي المناصب الحساسة.
إن المخابرات الاسرائيلية لا تصرف الآلاف من نقودها هباءً. . بل تدرك بحق أن المنافع التي ستعود عليها بعد ذلك ستكون رائعة.
واستمراراً لخطة صنع جاسوس محترف . . انتقل بهجت الى مدينة "بريمن" حيث قدمه بوتا للعديد من أصحاب شركات البترول والتجارة. . وعمل لديهم لبعض الوقت فاكتسب خبرات هائلة. . وصداقات متشعبة بصفته مواطن الماني متزوج من ألمانية.
وفي عام 1967، تأكد للإسرائيليين أن "الجاسوس النائم" بهجت حمدان أصبح ذا دراسة وعلم كبيرين بأمور التجارة الدولية. . وأعمال البورصة.. تعضده جنسيته الألمانية في اقتحام مجالات التجارة والتصدير في أسواق الشرق الأوسط دون أية شكوك أو صعوبات تعترض طريقه.
وابتدأ عمله التجسسي بأن أرسل لشركة "مصر للبترول" يعرض عليها استيراد شحنات من البترول المصري بصفته مندوباً لإحدى الشركات الألمانية. . وسافر الى القاهرة ليدرس العرض مع الشركة ..
كانت نكسة يونيو قد تركت آثارها على شتى النشاطات في مصر .. وحطمت المناخ العام شعبياً وعسكرياً وسياسياً . . وفي القاهرة أخبره والده بأنه مني بخسارة فادحة في تجارته . . فأغدق بهجت على أسرته بالهدايا الثمينة في كل مرة يجيء فيها الى القاهرة للتفاوض مع الشركة.
وبرغم فشله في عقد صفقة واحدة مع مصر للبترول بسبب طمعه في نسبة عمولة عالية .. اتجه – بتوجيه من بوتا – الى تجارة السلاح . . فدرس هذا المجال باستفاضة . .وأخذ يبحث كيفية تقديم عروض للدول العربية لبيعها صفقات أسلحة . . خاصة .. وظروف المنطقة المشتعلة بالصراع تتطلب ذلك.
أعجبته الفكرة تماماً. . وابتدأ بالأردن، لكنه فشل في أولى محاولاته لأن الأردن لا يبتاع السلاح عن طريق وسطاء. فعاد الى القاهرة يحدوه الأمل في النجاح هذه المرة. . وتقدم الى المسؤولين بعدة عروض لتوريد بعض المهمات والمعدات اللازمة لقطاعات هامة في الدولة. . وفوجئ بموافقة مبدئية على أحد العروض. . ولكن طلب منه تأكيد جدية العرض باستيفاء بقية الأوراق. . ومنها سابقة الأعمال.
كان بوتا – وهو الضابط الخبير – قد احترز جيداً في عمل "الساتر" للجاسوس المتحمس. . وقام بتكوين شركة مساهمة تحمل اسم "نورد باو" للأعمال الإنشائية والتوريدات . . مديرها بهجت حمدان ورئيس مجلس إدارتها "ألبرت فيزر" ضابط المخابرات الاسرائيلي الذي يحمل جواز سفر ألماني. . وكان هذا الساتر مأمن لبهجت ونقطة ارتكاز لتثبيت أقدامه. . بعيداً عن شكوك رجال المخابرات المصرية الذين يتشككون في كل شيء. .
وبناء عليه . . سافر بهجت حمدان الى ألمانيا لإطلاع بوتا على سير الأمور. . وكان على ثقة من نجاح الصفقة التي سيربح من ورائها عشرات الآلاف. . فهنأه بوتا على الصفقة الجديدة وأمده بسابقة أعمال وتوريدات مزورة حملها الى الحكومة المصرية. . واصطحب معه ألبرت فيزر لمناقشة الأسعار المقدمة.
وفي القاهرة طلب المسؤولون منهما عينات ومبلغ 20 ألف دولار كتأمين . . وتمت الصفقة في نجاح أذهل الاسرائيليين. . ذلك لأن عمليهم المدرب نال ثقة المسؤولين المصريين على اعتبار أنه مصري يسعى لخدمة وطنه.
بائع الوطن
لم تضيع الموساد وقتاً. . فظروف عميلها بهجت حمدان في القاهرة تتيح له العمل بأمان ونشاط . . وكان عليها استثماره جيداً ليس بإمدادها بمعلومات فقط. . بل بتكوين شبكة واسعة من أتباعه الذي يلمس ظروفهم عن قرب وينتقيهم بنفسه.
نظر بهجت حواليه وبدأ ينصب شباكه حول أولى ضحاياه. . وهو المهندس محمد متولي مندور زوج شقيقته. . الذي يعمل بشركة المقاولون العرب بمنطقة القناة، ونظراً لظروفه المادية السيئة فقد كان من السهل اصطياده بدعوى توفير فرصة عمل له في الخارج بواسطة شريكه "فيزر" في حال نجاح مشروعاتهما المرتقبة في مصر.
لأجل ذلك. . تفانى مندور في خدمة الخائن وشريكه. . ولكي يضمن كسب ودهما أكثر وأكثر استجاب لرغبتهما وأطلعهما على أسرار بعض العمليات الإنشائية السرية التي تتم على الجبهة بواسطة شركة المقاولون العرب.
طمعت الموساد في الحصول على رسومات هندسية لتصميمات الدشم والقواعد والمطارات العسكرية التي تقوم بها الشركة. ولتنفيذ ذلك – تعمد بهجت الابتعاد قليلاً عن مندور ومماطلته في أمر تشغيله في الخارج. . وأخيراً، صارحه بأن شريكه يريد الاطمئنان على مدى كفاءته وخبرته. وطلب منه بعض الرسومات الهندسية العسكرية للإطلاع عليها لتأكيد مدى تميزه وخبرته في العمل والوقوف على مستواه العملي. . فلم يعترض مندور وسلمه بالفعل الكثير من هذه الرسومات التي تعتبر سراً عسكرياً هاماً لا يجب البوح به. . بل تمادى في شرح الأعمال الإنشائية التي يقومون بها على خط القنال وبمناطق أخرى بالصعيد والوجه البحري. وكان بهجت يسأله بخبرة الجاسوس الخبير ويسجل أقوال صهره أولاً بأول وينقلها الى "فيزر" الذي لا يكف عن طلب المزيد والمزيد من المعلومات والرسومات.
وفي يوم الجمعة 22 مايو 1969 عاد بهجت من ألمانيا يحمل قائمة طويلة من أسئلة الموساد ومطلوب إجاباتها من خلال المهندس مندور.
من أجل ذلك. . أخبره بهجت بأنه في سبيل الحصول على موافقة نهائية من الشركة للعمل بها براتب قدره مائتي جنيه مع ان راتبه حينذاك كان لا يتعدى "25" جنيهاً شهرياً.
. وبالتالي أراد مندور ألا يضيع هذه الفرصة التي ستبدل حالته المتعثرة الى نعيم وازدهار. . فتمادى في إمداده بعشرات اللوحات الهندسية والتصميمات العسكرية السرية جداً، ومعلومات غاية في الدقة سجلها الجاسوس واحتفظ بها لدى شقيقته الأخرى. ليسافر بها الى ألمانيا.
ولكي يوسع من شبكة الجاسوسية بدأ بهجت يحوم حول جمعة خليفة المحامي صديق العائلة. وبإغراءات تعيينه مستشاراً قانونياً للشركة في مصر وتسفير ابنه لإكمال تعليمه في المانيا – دخل أخيراً وكر الجواسيس. وسافر الى بون لرؤية ابنه الذي يدرس الهندسة بالفعل. وجلس مع فيزر لعدة جلسات يتناقشان في العقبات القانونية التي تقف أمام الشركة في مصر. واكتشف ضابط الموساد أن جمعة تربطه علاقات قوية برجال يشغلون مناصب رفيعة. فكلفه بالبحث عن بعض العسكريين "الكبار" الذين يتركون القوات المسلحة لاستخدامهم كمستشارين فنيين.
كان الغرض من ذلك تكوين شبكة تجسس قوية من خلال هؤلاء العسكريين. . واستدراجهم في الحديث للإفصاح عن الأسرار العسكرية دون أن يعلموا أن كل كلمة ينطقون بها تصل رأساً الى الموساد.
هؤلاء القادة العسكريون كانوا حلم الأحلام بالنسبة لبهجت. إنهم سيمنحونه شلالاً متدفقاً من المعلومات الغزيرة التي لا تنتهي . حيث سيمنحهم رواتب ضئيلة قياساً بآلاف الجنيهات التي ستملأ جيوبه.
في هذه الأثناء كانت إنجريد زوجته الألمانية تعيش حياة رغدة في ألمانيا. . وتسكن شقة فاخرة في شارع راينهارت وتقود بنفسها سيارتها ماركة فورد، وتزخر شقتها بأروع التحف وأجمل السهرات مع صويحباتها. . يملؤها الفخر بزوجها رجل الأعمال الناجح الذي أغدق عليها حباً ومالاً وهدايا ثمينة من كل بقاع الأرض.
زادت الأموال بين يدي بهجت حمدان فازداد إنفاقه وازداد طمعه. . وسيطرت عليه شهوة المال الحرام فسعى إليه يطالبه ببيع أمنه وطنه وأرض وطنه وأهل وطنه. . دون أن تتحرك لديه نبضة من ندم أو خلجة من شعور.
بهجت حمدان اصطاد قائده
كانت إسرائيل في تلك المرحلة وبعد انتصارها في يونيو 1967 تبث دعايتها على أنها ذات جيش لا يقهر . . وكانت طائراتها الحربية تصعد عملياتها الهجومية لتمتد الى طول الجبهة من قناة السويس شمالاً الى خليج السويس جنوباً. في ذات الوقت الذي استخدمت فيه قوات الكوماندوز المحمولة جواً في عمليات جريئة واسعة النطاق في عمل الأراضي المصرية ، فأظهرت أوجه الخلل والعجز في النظام الدفاعي المصري وأصيب عبد الناصر بعدها بأزمة قلبية من فرط الغضب والانفعال.
ففي الساعات الأولى من ليل 1/11/1968، استخدم العدو طائرات الهليوكوبتر بعيدة المدى من طراز "سيكورسكي"، و "سوبر فريلون"، في اختراق الدفاعات الجوية، والوصول الى منطقة نائية في تجمع حمادي، ودمر أحد الأبراج الرئيسية لكهرباء الضغط العالي بأسلاكه، فانقطع التيار الكهربائي عن القاهرة والوجه البحري شمالاً. وكان الغرض من العملية هو إحداث الشلل في مصادر الطاقة في مصر.
كان الجاسوس بهجت حمدان يشعر بنشوة غامرة كلما دكت طائرات العدو قواعد الجيش المصري. . الذي لم تقف قيادته عاجزة بشكل كلي عن التعامل مع العدو. بل واجهته لحد كبير بنفس أسلوبه.. وهاجمته في منطقة شرقي الدفرسوار وكبريت وأغارت عليه في مقر داره ودمرت قطعه البحرية في إيلات.
كل ذلك وكانت آلة الدعاية اليهودية تعمل بكفاءة شديدة وتبث الإحباط في نفوس العرب، من أجل إرهابهم إذا ما أقدموا على عمل حربي موسع ضد إسرائيل.
وبينما كانت القوات المسلحة تعيد تنظيم صفوفها. . كانت المخابرات العامة المصرية تراقب تحركات بهجت يوسف حمدان .. الذي قدم الى مصر وغادرها اثنتى عشرة مرة الى ألمانيا. ولاحظ رجال المخابرات كثرة لقاءاته بصهره المهندس مندور وجمعة المحامي. . وبعض رجال القوات المسلحة السابقين.
وبعد مراقبات وتحريات مكثفة . . تبين لرجال المخابرات أن هناك شبكة تجسس يرأسها بهجت. . وعلى الفور جرى اعتقالهم جميعاً يوم 2 يونيو 1969، وفي مبنى المخابرات العامة ، ووجه بهجت بأدلة تجسسه فانهار في خلال عدة ساعات، وأفصح عن دوره الحقيقي ودور كل فرد من أفراد شبكة التجسس.
ومن مبنى المخابرات أرسل الى فيزر طالباً منه الحضور الى القاهرة على وجه السرعة. . حيث وافقت الحكومة المصرية على العروض المقدمة اليها وأنه بانتظاره للتوقيع على العقود وبدء النشاط، وعندما جاء فيزر كانت المخابرات المصرية بانتظاره على سلم الطائرة..
وأثناء التحقيق مع أفراد الشبكة بواسطة العميد إسماعيل مكي ظهرت مفاجأة لبهجت. . إذ اكتشف أن ضابط المخابرات الإسرائيلي "بوتا" يهودي مصري عاش بالاسكندرية وغادر مصر بعد عدوان 1956 مباشرة. . وأنه زاول العمل في مصر كسمسار للقطن في بورصة الاسكندرية لعدة سنوات قبل مغادرتها.
اكتشف أيضاً ان المخابرات الاسرائيلية كانت تثق بنفسها أكثر من اللازم ويتملكها غرور قاتل. فبرغم احترافه لمهنة الجاسوسية بعد تدريبه الطويل في أوروبا.. وعدم تركه لدليل واحد يساعد على كشفه . . إلا أن المخابرات المصرية استطاعت اصطياده وأفراد شبكته بسهولة شديدة وفي وقت قياسي. وهذا بعد دليلاً أكيداً على يقظة رجالها الذين برعوا في إلقاء القبض على عشرات الجواسيس في تلك المرحلة العصيبة.
وبعد حوالي العام من اعتقال الجواسيس الأربعة. . أصدرت المحكمة العسكرية حكمها بالأشغال الشاقة المؤبدة على الخائن بهجت حمدان "زواجه من إنجريد وحصوله على الجنسية الألمانية أنقذه من الإعدام" وبالسجن لمدة خمس سنوات لكل من ضابط الموساد والمهندس مندور وجمعة المحامي.
كانت لهذه الحادثة آثارها المرعبة في الموساد، لمعنى اعتقال أحد ضباطها من قبل المصريين، تكشف حقائق أساليب العمل المخابراتي الاسرائيلي في التجسس على البلاد العربية، بما يعني تغيير أنماط العمل المختلفة في النشاط الاستخباراتي.
كان هناك أيضاً الأثر النفسي الذي أصاب ضباط الموساد والعملاء العاملين خارج إسرائيل، إذ تخوف كل من المتعاملين معهم من الخونة العرب، ومن محاولات اصطيادهم بالخديعة والدهاء كما حدث للضابط الخبير فيزر، الذي وقع في شرك المخابرات المصرية.
لقد تندرت وسائل الإعلام العالمية بخيبة رجال الموساد، الذين قادتهم الثقة الزائدة الى كشفهم. وكان بهجت حمدان بحق هو أول جاسوس في العالم يصطاد قائده. . بعملية خداعية ذكية مكنت المخابرات المصرية من الحصول على معلومات ثمينة . . جاءت على لسان الضابط الأسير.
شكرا لمروركم
ناهد